نتوقف اليوم أمام ذكرى النكبة الحادية و الستون، لنستحضر أهم و أخطر العناوين الفلسطينية، من الاغتصاب و إقامة الدولة الصهيونية إلى التهويد الشامل للزمان و المكان الفلسطيني، إلى حروب الاجتياحات و المحارق المفتوحة حتى اللحظة ضد الشعب الفلسطيني، إلى الهجوم الجارف على ذكرى و ذاكرة النكبة كقضية و مصطلح و مضامين و تداعيات، فربما لم تشهد القضية و النكبة و الذكرى و الذاكرة و الحقوق العربية الفلسطينية المشروعة في فلسطين هجوماً صهيونياً تجريفياً شاملاً بهدف الإجهاز عليها كما تشهده في هذه الأيام التي تحل فيها الذكرى الحادية و الستون للنكبة و اغتصاب فلسطين.
و لا نبالغ إن وثقنا هنا أن تلك الدولة الصهيونية تعتقد أنها وصلت إلى مرحلة محو القضية و النكبة في الذاكرة الوطنية الفلسطينية و العربية بعد أن سطت على الوطن الفلسطيني و وصلت مخططات تهويدها للزمان و المكان الفلسطيني إلى نهايتها، فالجغرافيا الفلسطينية باتت بكاملها تقريبا تحت أنياب الاستيطان و التهويد. و الصراع أصبح إلى حد كبير على الرواية و الذكرى و الذاكرة و الوعي.
و تشن تلك "الدولة" مدججة بكل أسلحتها و معها الإدارة الأمريكية هجوماً استراتيجياً على الذاكرة بهدف تفكيك القضية و مصادرة آمال العودة و الاستقلال و التخلص من الاحتلال.
يقول الدكتور وليد سيف في مقالة كتبها في ذكرى النكبة: «إن الطرف الأقوى يفرض تعريفاته و تأويلاته على عقول الآخرين، فلا يكتفي الإسرائيلي بتحريف الرواية التاريخية عن سلب الوطن الفلسطيني بل يوغل أكثر ليحاول مصادرة أحلام التحرير و العودة و إعادة تعريفها لتعني الأوهام غير القابلة للتحقق»، و يؤكد أنه: « ليس أفظع من اغتصاب الأرض إلا محاولات اغتصاب التاريخ و الرواية، و لا أشد من التهجير القسري من الوطن، إلا محاولات تهجير الوطن من الذاكرة.. و ليس أخطر من الصراع على الأرض إلا الصراع على المعاني».
و يقول أورن يفتاحئيل (أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون): «إن مشاهد القتل و الدمار في غزة فظيعة» و إن «هذه الحرب ـ الأخيرة ـ استمرار للمشروع و السلوك الإقليمي الإسرائيلي الذي تبنى هدفاً متشدداً و وحشياً يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد...».
إسكات التاريخ يشكل أيضاً محواً للمكان الفلسطيني و معه الحقوق السياسية الكاملة.. القائمة بمشروعيتها و ليس بمنة من "إسرائيل".. إن الغزو الإسرائيلي لغزة استمرار لاستراتيجية مديدة السنوات من إنكار و محو و شطب أي ذكر لتاريخ هذا المكان في العصور الأخيرة، و مشروع المحو هذا ينخرط فيه الجميع تقريباً: السياسيون و الفنانون و وسائل الإعلام و الباحثون في الجامعات و المثقفون الإسرائيليون.
و استناداً إلى قول عجوز السياسة الإسرائيلية شمعون بيريز أحد رواد الاستيطان و البرنامج النووي الإسرائيلي، الذي ما زال يكرر حتى اليوم مقولة غولدا مائير بأنه :«لم يكن هناك شعب فلسطيني في الـ 67»، فإن المؤسسة الإسرائيلية بكاملها تعمل لتكريس ذلك عبر إسكات التاريخ الفلسطيني.
و توضح الدكتورة نوغة كدمان في دراستها المعنونة بـ «على جنبات الطريق و هوامش الوعي: إقصاء القرى الفلسطينية المهجرة من التخاطب و الحوار في إسرائيل» أن « السلطات الإسرائيلية تواصل بشكل منهجي طمس المعالم العربية الإسلامية للبلاد من التاريخ و الذاكرة الجماعية بعد محوها من الجغرافيا»، و تؤكد «المنهجية الإسرائيلية المعتمدة منذ النكبة في محو تسميات الأمكنة الفلسطينية أو عبرنتها، و إزالتها من الخرائط الرسمية و تجاهل تاريخها».
و في هذا السياق حصراً.. يقولون هم و يراهنون على أن «الكبار يموتون و الصغار ينسون»، و كان موشيه ديان قد كثف هذا المضمون مبكراً في مقابلة أجرتها معه مجلة «دير شبيغل» الألمانية في أكتوبر1971 قائلاً: «في نوفمبر عام 1947 رفض العرب قرار التقسيم (الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) و في عام 1949 (بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة) عادوا إلى المطالبة بتنفيذه». «و في عام 1955 - و الكلام لديان نقلاً عن دراسة للدكتور عبدالقادر ياسين- كانت جميع الدول العربية المعنية ترفض اتفاقيات الهدنة، و بعد حرب حزيران 1967 عادوا إلى المطالبة بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو». «ولن أفاجأ ـ يؤكد ديان ـ بعد حرب أخرى تسيطر فيها إسرائيل على مناطق عربية جديدة في الأردن أو سوريا إذا ما طالبوا بالعودة إلى الحدود الحالية..».
إذن ـ في الصميم و الجوهر ـ إنما يتحدث ديان عن حالة التفكك و العجز و العربي أولاً، ثم يتحدث عن ضعف الذاكرة العربية و حالة عدم الاكتراث و اللامبالاة من جهة ثانية، بينما يمكننا أن نستشف من أقواله من جهة ثالثة أن الصراع الحقيقي ليس فقط على الأرض المحتلة و إنما على الرواية و الذكرى و الذاكرة.
في هذه الأيام.. أيام ما يسمى زوراً و كذباً و تضليلاً «خيار السلام و التطبيع و التعايش» و«رياح التغيير الإيجابي ـ كما يقول بيريز» و أيام «نوافذ الفرص التاريخية للآخر» تمتد و تتسع مساحة هذا السطو بصورة مريعة لتصل إلى ذكرى النكبة.. و ذاكرتها..
و لكن«السياسة تستطيع أن تغتصب التاريخ، أما أن تلغيه فلا» كما يوثق الكاتب الفلسطيني علي جرادات» مضيفاً: «و تستطيع أن تسطو على الجغرافيا، أما أن تشطبها فذاك المستحيل بعينه، و تستطيع أن تعبث بالديموغرافيا، أما أن تدثرها فذاك نادراً ما حصل».
ما ينطق به لسان حال كل عربي فلسطيني على امتداد مساحة الوطن و الشتات و كأنه يقول: «سأبقى دائماً أحفر جميع فصول مأساتي و كل مراحل النكبة..من الحبة إلى القبة.. على زيتونة في ساحة الدار..».
و ذلك حتى تحين اللحظة التي قال فيها شاعر فلسطين محمود درويش:
«أيها المارون بين الكلمات العابرة آن لكم أن تنصرفوا
و تقيموا أينما شئتم و لكن لا تقيموا بيننا...
فاخرجوا من أرضنا من برنا... من بحرنا... من قمحنا... من ملحنا... من جرحنا...
من كل شيء... و اخرجوا من ذكريات الذاكرة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن موقع إسلام ويب
للمركز الفلسطيني للإعلام، بتصرف بسيــط.